هذا الصيف أردنا التغيير، لم نرد هذه المرة قضاء العطلة الصيفية في أوروبا مثل كل عام! فاجئتني ابنتي المراهقة التي تعشق الغرب وثقافته، عندما اقترحت: “لما لا نذهب إلى المغرب؟” المغرب؟! قلت لنفسي… مع أنني أعشق بلادنا العربية وأحب السفر والغوص في الحضارة والتقاليد والعادات العربية المختلفة في أرجاء عالمنا العربي، إلا أنني اعتقدت أن أطفالي لن يعجبهم هذا، فكنا أنا وزوجي نسافر لمصر أو سلطنة عمان مثلا لوحدنا، ولكن هذه المرة حصل تغيير… ابنتي البالغة ١٥ سنة تريد السفر إلى المغرب وليس لباريس، وابني البالغ من العمر ١٣ سنة لم يعترض بل دخل النت ليرى صور للمغرب، وأحب ما رأى.
وجهتنا إذا في الصيف كانت المغرب، شمال أفريقيا، وبعد نقاش حول المدن التي سنزورها هناك قررنا أن ننزل في مراكش ومن ثم نزور المحيط الأطلسي في الصويرة لنرتاح من حرارة الصيف، وابني الح علينا زيارة ورزازات حيث صور فيلمه المفضل هناك استاريكس وأفلاما هوليودية أخرى مثل جلادياتير، زوجي أراد زيارة جبال الأطلس وشفشاون ولكن وقتنا لم يسمح بذلك.
وصلنا المدينة الحمراء، مراكش، في الظهيرة، توجهنا من المطار مباشرة إلى مكان إقامتنا “رياض دي كلو دي آرت” Riad le Clos des Arts، كنا قد حجزناه مسبقا، اخترناه لقربه من ساحة جامع الفنا الشهيرة، حيث يبعد ٥ دقائق مشيا على الأقدام من الساحة. يقع الرياض في منطقة هادئة جدا،في حي رياض زيتون جديد، فور وصولنا قدم لنا الشاي بالنعناع وصاحب الرياض أعطانا شرحا مفصلا عن الرياض وعن الغرف والفعاليات هناك. أخذنا رياضا وليس فندقا لنتمكن أن نتذوق طعما حقيقيا للمغرب كعائلة، فالرياض حميمي أكثر والكثير من أصدقائنا نصحونا بهذا المكان بالذات. كانت الغرف نظيفة جميلة مصممة بأجمل الألوان، وتستطيع اختيار غرفتك حسب لونك المفضل، والأكل المقدم هناك طازج وشهي. الأطفال أحبوه أيضا وبالذات الشرفة الهادئة المطلة على المدينة والمسبح الصغير في طرفها.
بعد أن التقطنا أنفاسنا وارتحنا بالرياض، قررنا أن نمشي لساحة جامع الفنا، القلب النابض لمراكش، وتناول وجبة عشاء شعبية هناك، وصلنا هناك في ساعات الغروب، ساحة ضخمة جميلة، تعج بالسياح والسكان المحليين، وتحيط بالساحة مجموعة من المقاهي والمطاعم والدكاكين والفنادق. كان صوت الموسيقى وقرع الطبول وحكايا الحكواتية ىأتي من كل جانب يتخلله تصفيق المشجعين وضحكات الحاضرين! يا له من مكان فرح! لن تستطيع ابتسامتك أن تفارقك هناك، وجسدك يتحرك دون أمر منك لصوت الموسيقى، وقف ابني ينظر بدهشة لحركات بهلواني هناك، رأينا قرود وثعبان يرقص، كان أشبه بالرجوع لحقبة أخرى من الزمن، ألوان وتاريخ وموسيقى وتراث وحكواتي وروائح التوابل والأكل المغربي، تراِِث شفهي غني في مكان واحد، توزعنا هناك، كل واحد فينا وقف عند ما يجذبه وقضينا ساعات في الساحة نتذوق الطعام ونجول بين عجائبها.
مراكش مدينة غنية رائعة، في اليوم التالي قصدنا حديقة ماجوريل، والتي تعتبر كنزا نباتيا، إقتناه مصمم الأزياء المعروف إيف سان لوران، وفيه ترقد رفاته الآن. تحتوي الحديقة على تشكيلة من النباتات جلبت من جميع أنحاء العالم و التي تزدهر إلى جانب البرك الأنيقة و وفيلا جميلة. إنطلاقا من هذا المكان الساحر استقلينا واحدة من العربات التقليدية للذهاب إلى بساتين النخيل والتجوال فيها، ومن ثم توجهنا إلى المنارة، التي تعد من أهم معالم مراكش.
كنا نذهب إلى ساحة جامع الفنا كل يوم تقريبا ومن هناك نتجول في أسواق المدينة المختلفة، تستطيع أن تجد هناك الكثير من الكنوز، من الحلي المصنوعة من الفضة والسجاد والجلود وأواني الطعام، كلها جميلة زاهية وأردت شراء كل شيء رأيته!
حان وقت الذهاب إلى الصويرة، وقام صاحب الرياض بمراكش بترتيبات السفر إلى هناك لقضاء اليوم بأكمله هناك ومن ثم الرجوع إلى مراكش. تبعد الصويرة ما يقارب الثلاث ساعات عن مراكش وهي مدينة صيادين هادئة على المحيط الأطلسي،تشتهر بشواطئها وأسوارها، وحرفها المختلفة، عند وصولنا توجه الأطفال مباشرة إلى الشاطئ واستأجرا لوح تزلج على الأمواج وشراع تزلج، وهكذا قضو النهار باكمله بين الأمواج في المحيط، أما نحن فقد تجولنا في الأسواق المختلفة، الأسعار في الصويرة أرخص من مراكش فاغتنمت الفرصة لشراء الهدايا التذكارية وغيرها من كنوز المغرب. كل هذا كان وسط أنغام الموسيقى التقليدية يتخللها صوت أمواج المحيط. عندما يعود الصيادين من الصيد يتحول البحر إلى أزرق زاهي هو لون القوارب المحملة بالأسماك الطازجة. وطبعا في ذلك اليوم تناولنا السمك الطازج المشوي! كان يوما حافلا من الأحلام، عند وصولنا الرياض في مراكش، توجه الأطفال مباشرة إلى الفرشة ودخلوا في نوم عميق، أما نحن فاغتنمنا الفرصة لنقوم بجولة رومانسية بين أزقة المدينة ومن ثم جلسنا في مقهى هادئ وتسامرنا حتى ساعات الليل المتأخرة.
في آخر يومين من الرحلة، توجهنا إلى ورزازات، مدينة السينما بالمغرب، أو هوليود المغرب، تقع في الصحراء المغربية، وعلمنا لاحقا أن معنى الإسم يأتي من الأمازيغية مركبة من كلمتين، «وار» وتعني دون، و«زازات» وتعني الضجيج. هكذا اختار أهل المنطقة أن يطلقوا هذه التسمية التي تعني «دون ضجيج»، تميز هذه المنطقة باختصارها الفريد لمتناقضات المغرب. فهي تضم في وقت واحد، الثلوج التي تعمم هامات الجبال، وكثبان الرمال، والواحات الخضراء. والمنابع التي لا تنضب، والأودية الجافة وأشهرها وادي العطش. كما أنها أرض الزراعات الخاصة التي تكاد لا تنبت، في المغرب كله، الا في هذه المنطقة شبه الصحراوية، مثل النخيل والحناء والزعفران والورد البلدي.
في اليوم الأول زرنا قصر «آيت بن حدو» وهو قطعة من تاريخ معماري يلخص الكثير من العادات والتقاليد في المغرب، بل وحتى المعمار في جنوب الجزيرة العربية. يقع قصر «آيت بن حدو» على بعد 30 كيلومترا شمال مدينة ورزازات ويعتبر من أهم «القصور التاريخية» في المغرب. القصر عبارة عن تجمع بنايات تقليدية شيدت من الطين ومحاطة بسور به بعض الأبراج. يعتبر هذا القصر، بهندسته المتميزة، نموذجا للسكن التقليدي بالجنوب المغربي وتتميز مكوناته المعمارية بقيم جمالية. وهو ما أدى إلى وضعه من قبل منظمة اليونسكو عام 1987 على لائحة التراث العالمي.
في اليوم الثاني زرنا استديو أطلس، المشهور، كان ابني في قمة السعادة هناك، ورزازات مدينة الديكورات والتمثيل، والمهن الأخرى المرتبطة بالسينما وعالمها. مدينة سينمائية على الرغم من أنها لا توجد بها دار عرض واحدة، بل هي عبارة عن استوديو طبيعي، والراغبون في الفرجة يشاهدون الأفلام مباشرة وهي تصور أمامهم. يجد الزائر فور دخول هذه الاستوديوهات ساحة كبيرة وضعت فيها طائرة بيضاء، وسيارة «فيراري» حمراء هي بقايا فيلم «جوهرة النيل» لمايكل دوغلاس الذي صور في ورزازات عام 1984، وكذا فيلم «المصارع» و«كينغ أو هافن» للمخرج ريدلي سكوت.
أمام الساحة باب صغير، حيث يقتضي الدخول إليه الانحناء قليلا. هناك وجدنا أنفسا أمام تمثال كبير وخزانات فيها كتب بلا حصر.. إنه معبد «بوذا» والتمثال الكبير هو «بوذا». كل شيء في هذه الاستوديوهات مصنوع من جبس وكرتون وقصب. جميع هذه الديكورات شيدها حرفيون من أبناء ورزازات. أغلب الديكورات في هذا الاستوديو من طين وجبس.
هناك كذلك يوجد قصر كليوباترا وبيوت صغيرة وسوق، قال لنا المرشد إنها شيدت أثناء تصوير فيلم «النبي يوسف». لكن ليس كل التصوير يجري في الاستوديوهات، بل هناك مناطق صورت فيها أفلام لا توجد بها أبسط المرافق، ولا حتى الطرق المعبدة، مثل منطقة «فينت»، وينطبق الأمر نفسه على قصبة «آيت حدو»، التي صورت فيها أفلام عالمية، مثل «غلادياتور».
أحببنا المغرب وأهلها وتضاريسها، وفرح أطفالي لتنوع الألوان والفعاليات والثقافات،يجدر بالذكر أننا زرنا البلدة الحديثة في مراكش، كليز، والتي تضم كل المرافق والمطاعم ومجمعات التسوق الحديثة على أشكالها، لم أشعر أن علي الوقوف على تفاصيلها لأنها تشبه الأماكن الأخرى في العالم التي احتلتها ماكدونالدز وزارا وشبيهاتها.
سنعود مرة أخرى للمغرب، هذا وعد قطعته على نفسي.